كتاب: تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» **

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» **


‏[‏13 ـ 14‏]‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}

أي‏:‏ تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها، ولا القصور عنها، وفي ذلك دليل على أن الوصية للوارث منسوخة بتقديره تعالى أنصباء الوارثين‏.‏

ثم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ‏}‏ فالوصية للوارث بزيادة على حقه يدخل في هذا التعدي، مع قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏"‏لا وصية لوارث‏"‏ثم ذكر طاعة الله ورسوله ومعصيتهما عمومًا ليدخل في العموم لزوم حدوده في الفرائض أو ترك ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ بامتثال أمرهما الذي أعظمه طاعتهما في التوحيد، ثم الأوامر على اختلاف درجاتها واجتناب نهيهما الذي أعظمُه الشرك بالله، ثم المعاصي على اختلاف طبقاتها ‏{‏يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا‏}‏ فمن أدى الأوامر واجتنب النواهي فلا بد له من دخول الجنة والنجاة من النار‏.‏ ‏{‏وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ الذي حصل به النجاة من سخطه وعذابه، والفوز بثوابه ورضوانه بالنعيم المقيم الذي لا يصفه الواصفون‏.‏

{‏وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ ويدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي، فلا يكون فيها شبهة للخوارج القائلين بكفر أهل المعاصي فإن الله تعالى رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله‏.‏ ورتب دخول النار على معصيته ومعصية رسوله، فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بلا عذاب‏.‏

ومن عصى الله ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه، دخل النار وخلد فيها، ومن اجتمع فيه معصية وطاعة، كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية‏.‏ وقد دلت النصوص المتواترة على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد، غير مخلدين في النار، فما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود فيها‏.‏

‏[‏15 ـ 16‏]‏ ‏{‏وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا‏}

أي‏:‏ النساء ‏{‏اللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ‏}‏ أي‏:‏ الزنا، ووصفها بالفاحشة لشناعتها وقبحها‏.‏

{‏فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من رجالكم المؤمنين العدول‏.‏ ‏{‏فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ‏}‏ أي‏:‏ احبسوهن عن الخروج الموجب للريبة‏.‏ وأيضًا فإن الحبس من جملة العقوبات ‏{‏حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ‏}‏ أي‏:‏ هذا منتهى الحبس‏.‏ ‏{‏أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا‏}‏ أي‏:‏ طريقا غير الحبس في البيوت، وهذه الآية ليست منسوخة، وإنما هي مغياة إلى ذلك الوقت، فكان الأمر في أول الإسلام كذلك حتى جعل الله لهن سبيلا، وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن‏.‏

‏{‏و‏}‏ كذلك ‏{‏الَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا‏}‏ أي‏:‏ الفاحشة ‏{‏مِنْكُمْ‏}‏ من الرجال والنساء ‏{‏فَآذُوهُمَا‏}‏ بالقول والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه الفاحشة، فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون، والنساء يحبسن ويؤذين‏.‏

فالحبس غايته إلى الموت، والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَابَا‏}‏ أي‏:‏ رجعا عن الذنب الذي فعلاه وندما عليه، وعزما على أن لا يعودا ‏{‏وَأَصْلَحَا‏}‏ العمل الدال على صدق التوبة ‏{‏فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا‏}‏ أي‏:‏ عن أذاهما ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا‏}‏ أي‏:‏ كثير التوبة على المذنبين الخطائين، عظيم الرحمة والإحسان، الذي ـ من إحسانه ـ وفقهم للتوبة وقبلها منهم، وسامحهم عن ما صدر منهم‏.‏

ويؤخذ من هاتين الآيتين أن بينة الزنا، لا بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين، ومن باب أولى وأحرى اشتراط عدالتهم؛ لأن الله تعالى شدد في أمر هذه الفاحشة، سترًا لعباده، حتى إنه لا يقبل فيها النساء منفردات، ولا مع الرجال، ولا ما دون أربعة‏.‏

ولا بد من التصريح بالشهادة، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، وتومئ إليه هذه الآية لما قال‏:‏ ‏{‏فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ‏}‏ لم يكتف بذلك حتى قال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ شَهِدُوا‏}‏ أي‏:‏ لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانًا، من غير تعريض ولا كناية‏.‏

ويؤخذ منهما أن الأذية بالقول والفعل والحبس، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر‏.‏

‏[‏17 ـ 18‏]‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}

توبة الله على عباده نوعان‏:‏ توفيق منه للتوبة، وقبول لها بعد وجودها من العبد، فأخبر هنا ـ أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه، كرما منه وجودا، لمن عمل السوء أي‏:‏ المعاصي ‏{‏بِجَهَالَةٍ‏}‏ أي‏:‏ جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه، فكل عاص لله، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما بالتحريم‏.‏ بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها ‏{‏ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ‏}‏ يحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ثم يتوبون قبل معاينة الموت، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا‏.‏ وأما بعد حضور الموت فلا يُقبل من العاصين توبة ولا من الكفار رجوع، كما قال تعالى عن فرعون‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ‏}

وقال هنا‏:‏

{‏وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ‏}‏ أي‏:‏ المعاصي فيما دون الكفر‏.‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار‏.‏ ويحتمل أن يكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ قَرِيبٍ‏}‏ أي‏:‏ قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، فيكون المعنى‏:‏ أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة‏.‏

والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون بنظر الله إليه، فإنه سد على نفسه باب الرحمة‏.‏

نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة تامة ‏[‏التي‏]‏ يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب، ولهذا ختم الآية الأولى بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}

فمِن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته، ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ توفيقه‏.‏ والله أعلم‏.‏

‏[‏19 ـ 21‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شيئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كثيرًا * وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شيئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا‏}

كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته، رأى قريبُه كأخيه وابن عمه ونحوهما أنه أحق بزوجته من كل أحد، وحماها عن غيره، أحبت أو كرهت‏.‏

فإن أحبها تزوجها على صداق يحبه دونها، وإن لم يرضها عضلها فلا يزوجها إلا من يختاره هو، وربما امتنع من تزويجها حتى تبذل له شيئًا من ميراث قريبه أو من صداقها، وكان الرجل أيضًا يعضل زوجته التي ‏[‏يكون‏]‏ يكرهها ليذهب ببعض ما آتاها، فنهى الله المؤمنين عن جميع هذه الأحوال إلا حالتين‏:‏ إذا رضيت واختارت نكاح قريب زوجها الأول، كما هو مفهوم قوله‏:‏ ‏{‏كَرْهًا‏}‏ وإذا أتين بفاحشة مبينة كالزنا والكلام الفاحش وأذيتها لزوجها فإنه في هذه الحال يجوز له أن يعضلها، عقوبة لها على فعلها لتفتدي منه إذا كان عضلا بالعدل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية، فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، من الصحبة الجميلة، وكف الأذى وبذل الإحسان، وحسن المعاملة، ويدخل في ذلك النفقة والكسوة ونحوهما، فيجب على الزوج لزوجته المعروف من مثله لمثلها في ذلك الزمان والمكان، وهذا يتفاوت بتفاوت الأحوال‏.‏

{‏فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شيئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كثيرًا‏}‏ أي‏:‏ ينبغي لكم ـ أيها الأزواج ـ أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن، فإن في ذلك خيرًا كثيرًا‏.‏ من ذلك امتثال أمر الله، وقبولُ وصيته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة‏.‏

ومنها أن إجباره نفسَه ـ مع عدم محبته لها ـ فيه مجاهدة النفس، والتخلق بالأخلاق الجميلة‏.‏ وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة، كما هو الواقع في ذلك‏.‏ وربما رزق منها ولدا صالحا نفع والديه في الدنيا والآخرة‏.‏ وهذا كله مع الإمكان في الإمساك وعدم المحذور‏.‏

فإن كان لا بد من الفراق، وليس للإمساك محل، فليس الإمساك بلازم‏.‏

بل متى ‏{‏أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ‏}‏ أي‏:‏ تطليقَ زوجة وتزوجَ أخرى‏.‏ أي‏:‏ فلا جناح عليكم في ذلك ولا حرج‏.‏ ولكن إذا ‏{‏آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ المفارقة أو التي تزوجها ‏{‏قِنْطَارًا‏}‏ أي‏:‏ مالا كثيرًا‏.‏ ‏{‏فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شيئًا‏}‏ بل وفروه لهن ولا تمطلوا بهن‏.‏

وفي هذه الآية دلالة على عدم تحريم كثرة المهر، مع أن الأفضل واللائق الاقتداءُ بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تخفيف المهر‏.‏ ووجه الدلالة أن الله أخبر عن أمر يقع منهم، ولم ينكره عليهم، فدل على عدم تحريمه ‏[‏لكن قد ينهي عن كثرة الصداق إذا تضمن مفسدة دينية وعدم مصلحة تقاوم‏]‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا‏}‏ فإن هذا لا يحل ولو تحيلتم عليه بأنواع الحيل، فإن إثمه واضح‏.‏

وقد بين تعالى حكمة ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا‏}‏ وبيان ذلك‏:‏ أن الزوجة قبل عقد النكاح محرمة على الزوج ولم ترض بحلها له إلا بذلك المهر الذي يدفعه لها، فإذا دخل بها وأفضى إليها وباشرها المباشرة التي كانت حراما قبل ذلك، والتي لم ترض ببذلها إلا بذلك العوض، فإنه قد استوفى المعوض فثبت عليه العوض‏.‏

فكيف يستوفي المعوض ثم بعد ذلك يرجع على العوض‏؟‏ هذا من أعظم الظلم والجور، وكذلك أخذ الله على الأزواج ميثاقا غليظا بالعقد، والقيام بحقوقها‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏

‏[‏22‏]‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا‏}

أي‏:‏ لا تتزوجوا من النساء ما تزوجهن آباؤكم أي‏:‏ الأب وإن علا‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً‏}‏ أي‏:‏ أمرا قبيحا يفحش ويعظم قبحه ‏{‏وَمَقْتًا‏}‏ من الله لكم ومن الخلق بل يمقت بسبب ذلك الابن أباه والأب ابنه، مع الأمر ببره‏.‏

‏{‏وَسَاءَ سَبِيلًا‏}‏ أي‏:‏ بئس الطريق طريقا لمن سلكه لأن هذا من عوائد الجاهلية، التي جاء الإسلام بالتنزه عنها والبراءة منها‏.‏